الحمد لله والصلاة والسلام على
رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هداه، وبعد:
يبدو أن السِمة الظاهرة في عصر طغت عليه الماديات، والانكباب على الدنيا والملذات؛ كثرة الادعاءات والشعارات وضعف شديد بل تضييع لحقيقة وروح العبادات، وانقطاع الصلة والعروة الوثقى بين العباد ورب البريات، حتى وقع الناس بتناقض عجيب، وحال غريب ومآل مريب، وازدواجية وفصام تكاد رؤوس الولدان منها تشيب! كثير من الناس ممن فرّط وقصّر بل ضيّع فرائض وواجبات، وآخرون وقعوا في محرمات ومنكرات، بل متلبسون بخطايا ومحاذير ومنهيات؛ عندما تحثهم لتقويم هذا الخلل الكبير والجُرم المستطير، يكون الجواب: نحن مؤمنون .. وفي قلوبنا مسبحون ولمحبة الله دائمون. وللصلاة مؤدون، وقد قيل" الدعاوى إذا لم يقيموا عليها بينات فأصحابها أدعياء ".
فمحبة الله سبحانه عقيدة ثابتة وإيمان راسخ، قال تعالى( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ )[1]، فدل ذلك على أن حب الله من الإيمان، وحب الله ينبغي أن لا يدانيه ولا يساويه حب[2]، ومعناه أن المخلصين لله تعالى هم المحبون حقاً[3]، كما أنهم لا يختارون على الله ما سوى الله. ولأهمية ومكانة محبة الله في نفس المؤمن، وأنها علامة ودِلالة للارتقاء لأعلى مراتب الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام( ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجَد حلاوَةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأن يَكرهَ أن يَعودَ في الكُفرِ كما يَكرهُ أن يُقْذَفَ في النارِ ).
ولتحقيق المحبة الصادقة لله جل في علاه بعيدا عن أي ادعاء أو تظاهر، لابد من وجود علامات وأمارات المحبة ب
طريقة عملية، وبجميع الأحوال في العقيدة والعبادة والسلوك، تتلخص في طاعة الله عز وجل فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، واتباع النبي عليه الصلاة والسلام، دون إفراط أو تفريط وبعيدا عن الغلو والتقصير.
علامات محبتنا لله تعالى هي:1
- محبة الله سبحانه وحده دون غيره وتقديمها على كل محبوب:قال تعالى( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ). وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله، وجهاد في سبيله.
وأما حب رسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فهو دون حبه عز وجل، وفوق حب تلك الأصناف الثمانية وغيرها ممن يحب من الخلق . وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها، والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها التي لا يبقى في العذاب إلا أهلها، فأهل المحبة الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يدخلون النار، ومن دخلها منهم بذنوبه فإنه لا يبقى فيها منهم أحد. وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده، ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال، والتسليم، وتقديم محبة الله على محبة الولد، فلما فعل ذلك رفع عنه الأمر بالذبح.
2
- طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وتقديم محبته على من سواه:قال تعالى( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )[11]، هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقةالمحمدية، فإنه كاذب في دعواه تلك، حتى يتبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأفعاله[12]، فالخطاب في الآية عام يشمل كل من ادّعى حبّ الله، أي طاعته واتّباع أمره، ولم يتّبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[13]، وهذه الآية عند السلف الصالح تسمى آية المحبة التي يختبر الله بها كل من يدعي محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
قال عليه الصلاة والسلام( لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ من والدِه وولدِه والناسِ أجمعينَ )[14]، وعلامة ذلك تقديم طاعة الله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام على كل طاعة أخرى، وتقديم ما يحبه الله ورسوله على كل ما يحبه الناس حتى لو في ذلك سخط الناس جميعا. ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، في أقواله وأعماله وجميع أحواله[15].
3
- الاشتغال بطاعته وعبادته والتقرب إليه:من أبرز العلامات الظاهرة لمحبتنا لله عز وجل، الاشتغال بطاعته وعبادته من تأدية الفرائض على أتم وجه، والاستكثار من النوافل، وعدم تضييع الأوقات بسفاسف الأمور وفضول الكلام، إن سلمنا من المعاصي والآثام.
4- محبة كلامه وكثرة تلاوته وتدبره:قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله عز وجل فليعرض نفسه على القرآن، فمن أحب القرآن فهو يحب الله عز وجل.
قال ابن القيم: وكذلك محبة كلام الله، فإنه من علامة حب الله، وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله، فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم، فإن من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه كما قيل:إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتابي؟ ... أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي[16].
قال سهل التستري: من علامات حب الله حب القرآن، وعلامة حب الله وحب القرآن حب النبي عليه الصلاة والسلام، وعلامة حب النبي عليه الصلاة والسلام حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، ومن علامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا زادا يبلغه إلى الآخرة[17].
5
- كثرة ذكر الله عز وجل:كثرة ذكر الله سبحانه يقود لاطمئنان القلب وانشراح الصدر والاستئناس بالله عز وجل، ومن أحب شيئا أكثر من ذكره وذكر كل ما يتعلق به.
قال إبراهيم بن علي: من المحال أن تعرفه ثم لا تحبه، ومن المحال أن تحبه ثم لا تذكره، ومن المحال أن تذكره ثم لا يوجدك طعم ذكره، ومن المحال أن يوجدك طعم ذكره ثم لا يشغلك به عما سواه[18].
ومن علامات محبة الله: أن الإنسان يديم ذكر الله، يذكر ربه دائما بقلبه ولسانه وجوارحه[19].
6
- الرضا بقضاء الله وقدره:قال ذو النون المصري: ثلاثة من أعلام المحبة: الرضا في المكروه، وحسن الظن به في المجهود، والتحسين لاختياره في المحذور.
وقال عبد الواحد بن زيد: ما أحسب أن شيئا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا، ولا أعلم درجة أشرف ولا أرفع من الرضا، وهو رأس المحبة.
7
- الذل لله تعالى والانكسار بين يديه:يقول الفضل الرقاشي: والله لو جمع للعابدين جميع لذات الدنيا بحذافيرها لكان امتهانهم أنفسهم لله بطاعته ألذ.
قال ابن القيم: فالرب تبارك و تعالى يريد من عبده الاعتراف و الانكسار بين يديه و الخضوع و الذلة له و العزم على مرضاته[20].
8 - محبة كل ما يحبه الله سبحانه:ومن علامات محبة الله ورسوله أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله، ويمتثل أمره ويترك نهيه[21].
وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك.
9
- محبة الأنبياء والرسل والصالحين والمؤمنين:ومن لوازم محبة الله أيضا محبة أهل طاعته كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان[22].
10
- أن يكون رحيما بالمؤمنين شديدا على الكافرين:قال تعالى( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ )[23]،
فقد وصف الله سبحانه من يحبهم ويحبونه بأنهم أذلة رحماء مشفقون ليني الجانب مع المؤمنين، أشداء أعزة على الكافرين، فمن اختلت عنده هذه الصفات حصل خلل كبير ونقص عظيم بمحبته لله تعالى.
11
- يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم:كما قال تعالى في وصف من يحبهم ويحبونه( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ )[24]، يقاتلون أعداء الله لإعلاء كلمته، وسبيل الله هو طريق الحق والخير الموصل إلى مرضاته تعالى، ومن أعظم الجهاد بذل النفس والمال في قتال أعداء الحق، وهو من أكبر آيات المؤمنين الصادقين[25].
والجهاد في سبيل الله معناه شمولي بالنفس والمال واللسان والقلب.