شرح لآيات حادثة الافك .
هذه الآيات الكريمات نزلت في عصبة من الكاذبين والمنافقين الذين افتروا على السيدة عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها فنزلت تبرئة لها من رب العالمين . ولم يذكر اهل العلم من هؤلاء المنافقين سوى اربعة منهم وهم من كانوا على رأس هذا الإفك وهم : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش وعبد الله بن ابي بن سلول ؛ وأجهل العلماء باقي الاسماء والله اعلم
تفسير الآيات :
" بالإفك " الإفك الكذب. والعصبة : من عشرة الى خمسة عشر رجلا . وأصلها في اللغة العربية رجالا يتعصب بعضهم الى بعض ويساند بعضهم بعضا . والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه . وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم . فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ; لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا , وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى . فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان , إذ الخطاب لهم في قوله " لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم " ; لرجحان النفع والخير على جانب الشر .
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ :
يعني ممن تكلم بالإفك.
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ :
روي عن عائشة أنه حسان , وأنها قالت حين عمي : لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء القوم وسماهم باسمائهم بعدما خطب جمعته ونزل من على المنبر فامر بجلدهم ثمانين جلده ، وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة , وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود ( إنها كفارة لمن أقيمت عليه )
وفي حديث آخر ان ابن ابي لم يقم عليه الحد وهو من على رأس هذا الأفك وذلك لسببين الاول : حتى لا يخفف عنه الله العذاب يوم القيامه ... والثاني : استئلافا لقومه ولعدم وقوع فتنه كانت محتمله مع قومه والله اعلم .
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ {12} :
هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا. قال ابن زيد : ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه ; قاله المهدوي .
و " لولا " بمعنى هلا . وقيل : المعنى أنه كان بنبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم ; فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته ; وذلك أنه دخل عليها فقالت له : يا أبا أيوب , أسمعت ما قيل ! فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ! قالت : لا والله قال : فعائشة والله أفضل منك ; قالت أم أيوب نعم . فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم .
معنى " بأنفسهم " بإخوانهم . فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه . وتواعد من ترك ذلك ومن نقله
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ :
هذا توبيخ لأهل الإفك . و " لولا " بمعنى هلا ; أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء .
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ :
أي هم في حكم الله كاذبون . وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه , ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى ; وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه , فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة .
ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم , فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه ; وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته , ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه , وإن قال إن سريرته حسنة . وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر , وأن السرائر إلى الله عز وجل .
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قال الله عز وجل " ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم "
أي بسبب ما قلتم في عائشة لعذبكم عذابا عظيما في الدنيا والآخرة . وهذا عتاب من الله تعالى بليغ , ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا . والإفاضة : الأخذ في الحديث ; وهو الذي وقع عليه العتاب ; يقال : أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه يتحدثون .
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ :
تقول ألسنتكم الكذب وتصرون عليه ، ولها معنى آخر وهو الإسراع في الكلام .
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ :
أسلوب مبالغة وإلزام وتأكيد .
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا : الضمير في " تحسبونه " عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له . و " هينا " أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم .
وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ :
" وهو عند الله " في الوزر " عظيم "
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ :
عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل , وأن تنزهوا الله تعالى عن أن هذا لا يقع ابدا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام. وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان ; وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه , والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه. وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا :
هذا نهي صريح من الله ان يعودوا الى سب السيدة عائشة في هذه النقطه بالذات ومن خالف كلام الله فهو كافر وعقابه القتل وهذا الكلام يندرج على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ايضا واهل بيته جميعهم .. اما من آذى عمر أو ابى بكر فلا يكون عقابه القتل لان الله تعالى لم ينزلها صريحه في القرآن ولكن يكون عقابه التأديب وذلك لقول مالك ..قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول : من سب أبا بكر وعمر أدب , ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول : " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين " .
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ :
توقيف وتوكيد ; كما تقول : ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا .
الأحداث
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع , وقرب من المدينة فنوى الرحيل ليلا ، فقامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش , فلما فرغت من حاجتها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقدها قد انقطع , فرجعت فالتمسته وقتا طويلا , فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا , وكانت شابة قليلة اللحم , فرفع الرجال هودجها (الهودج مكان يوضع على الجمال وتستتر فيه النساء ) ولم يشعروا بنزولها منه ; فلما لم تجد أحدا رقدت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها , فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون ; وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة . وقيل : إنها استيقظت لاسترجاعه , ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة , وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في منتصف الظهيرة ; فوقع أهل الإفك في مقالتهم , وكان الذي يشعل هذا الإفك هو عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق , وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال هذا المنافق: والله ما نجت منه ولا نجا منها (اي قذفهما بالزنا ) , وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش . هذا اختصار الحديث , وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم , وهو في مسلم أكمل . وكان صفوان من خيار الصحابة ومن اشجعهم . وقيل : كان حصورا لا يأتي النساء ، وقيل كان له ابنان . وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر , وقيل : ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية .